لماذا لا نحتمل الخلود؟ قصة امرأة عاشت 300 سنة ثم رفضت الحياة من جديد
هل يمكن أن يصبح الخلود سجنًا؟ تأملٌ فلسفي في قصة امرأة عاشت 300 سنة ثم رفضت الحياة من جديد. ما الرابط بين هذا القرار وفلسفة السمو الإنساني والاحتياج الوجودي؟ قراءة عميقة في المعنى والزمن واكتمال الرحلة.
المرأة التي لم تمت: حين يصبح الخلود عبئًا على الروح
(وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۚ أَفَلَا يَعْقِلُونَ)
— [سورة يس، 68]
ليست كل النهايات هزيمة، كما أن ليست كل البدايات انتصارًا... فبعض البدايات تحمل في أحشائها بذور التيه، وبعض النهايات تُولد من رحمها الحياة ذاتها، ولكن على هيئة إدراك.
هذه ليست قصة عن امرأة أطالت البقاء، بل عن امرأة أُجبرت على الاستمرار في غياب المعنى، عاشت ما يكفي لترى أن الامتداد الزمني لا يعني شيئًا إن افتقر إلى الدهشة، إلى التجدد، إلى المجهول الذي نحيا لأجله.
اسمها في المسرحية التي استلهم منها الفيلسوف برنارد ويليامز فكرته كان "إليزابييت ماكروبولوس"، ولكن اسمها ليس هو المهم، إنما التجربة... تجربة امرأة شربت الإكسير الذي يمنح الحياة ثلاثمئة عام، لا مرض، لا شيخوخة، لا موت.
ويا له من إكسير خادع... يوهمك بالحياة، بينما يُطفئ جذوة الشغف شيئًا فشيئًا.عاشت إليزابييت ثلاثة قرون، لا تتقدّم في العمر، لا تفقد ذاكرتها، لا ترحمها الأيام بانطفاء تدريجي... بل بقيت عالقة بين الجسد النابض والروح المتعبة، كأن الزمن قد نسي أن يكتب فيها عبارة "انتهت صلاحية المعنى"، فاستمرت... في الكتابة، في الحب، في الموسيقى، في السَفر، في التجربة، في الخسارة، في الوحدة، في التجدد القسري الذي لم يعُد يُشبهها.
رأت كل من أحبّتهم يعودون إلى التراب، ويأخذون معهم قطعة منها لا تعود. وجربت أن تُحِبّ من جديد، ولكن القلوب الجديدة لم تكن سوى مرايا لأحزان قديمة، فالحب لا يزدهر حين يكون أحد طرفيه قد جرّب كل أشكال الوداع، ولا تنمو الأشواق حين لا يوجد شيء يُخشى فقدانه.
هل كان البقاء نعمة؟ أم لعنة مغلّفة ببريق الفِكرة؟
قالت إليزابيث في نهاية المسرحية
"أعرف كل شيء. جربت كل شيء. لا شيء يُدهشني. لا شيء يُغريني. لقد أصبحت ظلًا يتجول في عالم لا يحتاجني."
ثلاثمئة عام من تكرار التجربة، من محاولات مستميتة لاستحضار الإحساس الأول بكل شيء. أول ضحكة، أول قبلة، أول انتصار، أول حلم، أول فشل. لكن لا شيء يعود كما كان. اللحظة حين تُكرر، تبهت. والمعنى حين يُستهلك، يموت. والإنسان حين يعيش بلا خوف من النهاية يفقد حماسته للبداية.
في العام الثلاثمئة، عادت الفرصة إلى إليزابيث من جديد وتُعرض عليها نفس الإكسير، نفس الوعد، نفس الامتداد. ولكن شيئًا قد تغيّر. لم تعد اليد تمتد، لم تعد العين تلمع، لم تعد الرغبة تقفز داخلها كطفلة صغيرة. كانت هادئةً حد الصمت، عميقةً حد التعب، ناضجةً حد النهاية.
سألها السائل: أتشربين؟
فابتسمت ابتسامة من شهد كل شيء، وقالت:
"لقد رأيت ما يكفي لأعرف أن الخلود ليس حياة، بل سجن بلا قضبان."
لم ترفض الخلود لأنه شر، بل لأنه فارغ. ولم تطلب الموت لأنه خلاص، بل لأنه اكتمال.
فثمة فرق شاسع بين من يريد أن يموت، ومن يريد أن لا يعود للبداية من جديد. المرأة التي عاشت ثلاثمئة سنة لم تكن تنتحر حين رفضت الإكسير، بل كانت تمارس حقّها في التوقّف، في الاكتمال، في الامتلاء. فليس كل انسحاب خسارة، وليس كل استمرار نضجًا.
قد يُعرض عليك في يوم ما إكسيرٌ من نوع آخر...
فرصة، عرض، تطويل لشيءٍ تحبّه وتظنّ أنك لا تقدر على فِقدانه.
تذكّر أن الحكمة أحيانًا لا تكون في التشبّث، بل في القدرة على قول “كفى” من موضع الامتنان، لا من موضع السخط.
الخلود الذي لا يسمو
حين تقف على حافة الخلود، لا ترى المستقبل فقط، بل ترى هشاشة الزمن حين يُفرغ من معناه، وحين يُختزل في كونه وعاءً مطاطيًا يتسع لكل شيء، فيفقد بذلك جوهر كل شيء.
لقد عاشت تلك المرأة ثلاثمئة عام كما ورد في المسرحية الفلسفية، ولكنها لم تعد تتذكر في أي عام من أعوامها توقفت عن الرغبة، متى بالتحديد نام قلبها عن الشوق، متى أصبحت الصباحات مكررة كأنها نسخ محشوة بلون واحد، ومتى أدركت أن كل محاولة لاستعادة اللذة الأولى ليست إلا خداعًا خافتًا تُمارسه النفس حين تُجبر على تكرار ما لم يعُد يُدهش.
في كتاب تأملات في السمو الإنساني، ذكرت أن الإنسان لا يبلغ حقيقته إلا حين يعبر من احتياجاته الجسدية إلى طموحاته الفكرية، ثم يتجاوزها كلها إلى مراتب وجودية، حيث لا يعود معنى الحياة متعلقًا بما يمتلكه أو بما يخسره، بل بمن يكون، وماذا يُجسد، وما هي رسالته التي تظل بعد أن لا يعود جسده حاضرًا في الذاكرة. وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة في تجربة "المرأة التي لم تمت"، فهي كانت تملك الوقت كله، ولكنها فقدت ذاتها، وكانت تعيش خارج قيد المرض، لكنها كانت تتآكل في داخلها شيئًا فشيئًا من شدة الإشباع المتكرر لكافة احتياجات النجاة والنمو، ومن انعدام الخسارة، لأن من لا يخسر، لا يعرف لذة الاكتمال، ولا مرارة التوقف الجميل، ولا التوق إلى الجديد.
وناقشت في كتاب الطريق إلى قمة الوعي، أن "الاحتياج" هو الوقود الذي يدفعنا للصعود، وأن الإنسان حين يتوقف عن الاحتياج، لا يعود كائنًا صاعدًا بل كيانًا مكررا، محكومًا بالثبات رغم تنفسه، ميتًا رغم حركته، ظاهرًا في الحياة رغم غيابه التام عن كل شعور بالحياة والخلود، حين يُمنح بلا غاية، يتحول من نعمة إلى سجن شفاف، ومن فرصة للبقاء إلى عقوبة مستترة للبقاء في الفراغ.
ومن قواعد الوعي أن الإنسان لا يُعرّف بزمنه، بل بتحوله، وأن من لا يتغير، لا يعيش، حتى وإن بقي ألف عام. فالتحول الداخلي هو الدليل على أن الروح تتنفس، وأن الوعي في حالة صعود، وأن العقل لم يسقط في فخ الرتابة.
إن المرأة الخالدة لم تعُد تشتهي العالم، لا لأنها فهمته، بل لأنها تجاوزت كل رغبة فيه ولم تجد شيئًا جديدًا تُفاجئ به نفسها، كانت نهاية الشغف عندها أكثر إيلامًا من نهاية العمر، وكانت استمراريتها باردة لأنها لم تعد تحتاج إلى شيء، وقد ذكرت الفصل المعنون بـالرُّوح المهملة في كتاب الطريق إلى قمة الوعي أن "أخطر أنواع الموت هو أن نعيش بلا توق، وأن نواصل السير حين نكون قد فقدنا البوصلة والغاية"، وهو بالضبط ما حدث لها، إذ لم تمت بيولوجيًا، ولكنها ماتت وعيًا، وتحولت إلى شاهد يتنقل بين العصور دون أن يُشعر أحدًا أنه حي. فحين تُغلق دائرة الاحتياج، لا يعود أمام الروح إلا أن ترتدّ إلى ذاتها، فإن لم تجد معنى الذي بني بالوعي والعمق، إلتهمت نفسها وبقي الجسد المعذب بروح تلاشت.
ولذلك حين نظرت إلى الإكسير الثاني، لم تكن تراه خلاصًا، بل جريمة مؤجلة ضد كيانها الداخلي، رفضته لا لأنها تُحب النهاية، بل لأنها كانت تعرف أن المعنى لا يُولد إلا في حضرة النهايات، وأن ما يجعل كل يوم ثمينًا هو أنه لا يُكرر، وما يجعل كل وداع مؤلمًا هو أننا لا نعلم إن كنا سنعود.
قد لا يُعرض عليك إكسير الحياة، ولكن قد يُعرض عليك ما يُشبهه: وظيفة لا تنتهي، علاقة لا تموت، روتين لا يتغير، شعور لا يتحرك. فاختر بعناية، متى تبقى، ومتى تنسحب. واختر ألا تكرر ما انتهى وتدخل في إدمان إشباع الاحتياجات الدنيا في مراحل النجاة والنمو، وألا تستجدي حياة بلا شغف.
واختر دائمًا، أن تُغادر حين تكتمل، لا حين تُستهلك.
لأن السموّ ليس في البقاء، بل في كيف نملأ البقاء بالتحوّل والمعنى.
ولأن الزمن، حين يفقد حدوده، لا يمنحك الحرية... بل يسلبك الإنسانية.






